مرّت ستة أشهر على سقوط النظام السوري دون أن تشهد البلاد موجات العنف التي تم التنبؤ بها مسبقاً، والتي صُوِّرت في وسائل الإعلام على أنها “انهيار دموي” متوقع، يُفضي إلى مجازر كبرى تقوّض الأسس النظامية للحياة المدنية.
لكن غياب هذه الكارثة المتوقعة لا يعني زوال الخطر، بل قد يكون مؤشراً على تأجيله. ففي سياقات مماثلة، حيث أُستغلت تلك التصورات الضخمة لتخفيف الانتقادات عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدث وتحدث خلال الفترة الانتقالية عبر تسميات مخففة مثل “حوادث فردية” أو “تصرفات غير مسؤولة” أو ” فلول النظام”، مع ربط هذه الوقائع بتبرير أنها مرحلة اضطراب مؤقت طبيعي في مسار التحول السياسي.
غير أن المقاربة العلمية والقانونية تقتضي التحذير من إمكانية تحول هذا الاضطراب إلى نزاع داخلي شامل، يشبه ما شهدته العراق بعد انهيار نظام صدام حسين عام 2003. ففي ذلك السياق، أدت الانقسامات الطائفية، لا سيما بين السنة والشيعة، إلى موجة صراع عنيف بلغت ذروتها بين عامي 2006 و2007 ” أي بعد سقوطه بثلاث سنوات” ، وما تزال البلاد إلى اليوم تعاني من تداعياتها الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
العوامل المسببة للنزاع الأهلي في العراق كنموذج تحذيري
من المهم دراسة العوامل التي ساهمت في اندلاع النزاع الأهلي في العراق، بهدف استخلاص الدروس وتجنّب تكرارها في السياق السوري. من أبرز هذه العوامل:
-
تفكيك مؤسسات الدولة: تم حل الأجهزة الإدارية والأمنية العراقية بشكل كامل عقب الاحتلال، مما أدى إلى فراغ مؤسسي أُتيح من خلاله ظهور كيانات موازية للدولة عملت على تقديم خدماتها وتجنيد السكان، قبل أن تتحول إلى أدوات لتأجيج الصراع المسلح.
-
التدخل الخارجي وتجنيد المقاتلين الأجانب :ساهم التدخل المباشر وغير المباشر من قبل قوى إقليمية ودولية في إدارة العراق دون وجود إطار دولي موحّد عبر مؤتمر دولي جامع، إذ سعت كل جهة إلى فرض رؤيتها من خلال دعم جماعات مسلحة تُستهدف تجنيد أجانب مقاتلين امتدت فيما بعد الىتجنيد مقاتلين اجانب تحت أهداف ظاهرية مختلفة، سرعان ما تحولت تلك الجماعات فيما بعد إلى أدوات تعيق إعادة بناء الدولة واستقرار الامن.
-
التمييز السياسي والطائفي. أدى اعتماد نظام المحاصصة الطائفية إلى تعميق الفجوات بين مكونات الشعب والذي انعكس الى تمسك بالفصائل واستغلالها كأدوات للنزاع العنيف، واستُخدمت الشعارات الجامعة لتغطية تفرد فئة معينة بالسلطة، ما جعل العنف أداة رئيسية لفرض الرأي السياسي وتبرير العنف.
أوجه التشابه والاختلاف بين السياقين العراقي والسوري
رغم الفوارق الظاهرية بين التجربتين، التي تُشير إلى اختلاف الحالة السورية عن التجربة العراقية استناداً الدعم العربي والغربي المباشر للحالة السورية، وغياب تدخل عسكري شامل كالحالة العراقية ووجود والوصايا المباشرة ، إلا أن هناك تقاطعات عميقة:
-
الانقسامات الطائفية: كما في العراق، تعاني سوريا من تصدعات طائفية متفاقمة، وصلت في بعض الحالات إلى الانقسام داخل الطائفة الواحدة، ما يزيد احتمالية نشوب صراع داخلي متعدد الجبهات.
-
التدخلات الخارجية وتجنيد الأجانبالتدخل الدولي في سوريا يتم بطرق غير مباشرة عبر وكلاء محليين ومستشارين وجماعات مسلحة، إلا أن تأثيره في تصعيد النزاع لا يقل عن التجربة العراقية، لاسيما في ظل سياسة “حصر” المقاتلين الأجانب في مناطق جغرافية محددة كما كان الوضع سابقاً بادلب ومنع خروجهم ، دون اعتبار لمستقبل سوريا ،بل الامر تعدى الى حملة اعلامية قوية لتلاعب بمشاعر السوريين وتخويفهم وعدم السماح لهم بالتفكير انهم يبنون من وطنهم سجن للجماعات الجهادية.
-
ضعف المؤسسات وإعادة بناء الدولة : العراق اعتمد سياسة “البدء بالاعمار من الصفر” بحل أجهزة الدولة وإعادة بنائها برؤية جديدة، لكنها اصطدمت تلك الروية باختلافات داخلية حادة وعدم القدرة على تكوينها . سوريا تواجه تحدياً مشابهاً، في ظل سيطرة جماعات جهادية على مراكز القوة، وغياب اتفاق وطني جامع حول هيكلية الدولة المقبلة.
-
الطبيعة المتباينة للتدخل الدولي: في العراق، كان التدخل مباشراً من خلال الحاكم المدني الأمريكي “بول بريمر”، بينما في سوريا يتم بشكل غير مباشر وبوسائل معقدة تشمل دعم فصائل وتسويات مغلقة، ما يطيل أمد الأزمة ويعقّد آليات بناء مؤسسات الدولة حقيقة .
-
الوضع الاقتصادي والاجتماعي: رغم آثار الحرب، استفاد العراق من موارده النفطية في تخفيف حدة الانهيار. أما سوريا، فتشهد اقتصاداً منهكاً وانهياراً في البنية التحتية، مما قد يجعل التنافس على الموارد الشحيحة عاملاً مغذياً للنزاع المستقبلي.
إمكانية تجدد النزاع الأهلي في سوريا: مقاربة قانونية وعلمية
من منظور قانوني وتحليلي، يمكن تحديد عدة عوامل مؤثرة في احتمال تجدد النزاع الأهلي في سوريا:
-
-
قدرة القيادة الجديدة على تأمين الاستقرار السياسي: تشكيل حكومة جامعة تمثّل جميع مكونات الشعب وتضمن حيادية القانون، يمثل عاملاً حاسماً في تفادي النزاع. غير أن الصراعات المستمرة بين الفصائل على النفوذ الاقتصادي والسياسي تشير إلى انخفاض فرص نجاح هذا المسار.
-
تنظيم الميليشيات والفصائل المسلحة: استمرار عمل هذه الجماعات دون رقابة قانونية صارمة قد يؤدي إلى تصعيد تدريجي يتطور إلى صراع مسلح، خاصة في ظل تواجد مقاتلين أجانب يدينون بالولاء لأجندات أيديولوجية متضادة، مثل الايغور والاوزباكستانيين ذو التوجه الجهادي و الpkk ذو توجه القومي اليساري .
-
دور القوى الإقليمية والدولية: التدخلات الخارجية ليست قصيرة المدى، بل تتخذ طابعاً استراتيجياً بعيد الأمد، يشمل بناء شبكات اقتصادية وعسكرية موازية داخل الدولة السورية، وخاصة ان الادور بين القوى الاقليمة تبدل من كان مسيطر على مشهد مع نظام السابق بدأ يتلاعب من خلف الستار و الذي كان مع المعارضة اصبح يتحكم علاني بالمشهد ، مما يصعّب أي محاولة لتأسيس سلطة موحدة دون وجود مؤتمر دولي ينهي اتنقساماتهم ويطلق خطة تضع حدود للتدخل الدولي ، تبقى سوريا ساحة للصراعات.
-
غياب العدالة الانتقالية: عدم وجود آليات قانونية فعالة لمحاسبة مرتكبي الجرائم وإعادة تأهيل الضحايا يفاقم الشعور بالظلم ويُبقي احتمالات الانتقام مفتوحة، خاصة ان امراء الحرب و شبكاتهم عادت للعمل بعد اجراء تسويات تحت الطاولة بوساطات محلية ودولية ، مما يحول الاعدالة الانتقالية الى عدالة انتقامية .
-
الفساد وتآكل الحريات : يؤدي غياب الشفافية وضعف القانون إلى تفشي الفساد وتراجع الحريات ، وخاصة ان السلطة الحالية اعتمدت على القوى الشعبوية في اسكات الاصوات المناهضة ضدها على اعتبار هؤلاء خارج السيطرة ، لكنها تتناسى ان هؤلاء يدفعون نحو خلق بيئة خصبة لنشوء جماعات مسلحة تطرح نفسها كبديل للدولة.
-
مؤشرات أخرى تشير إلى أن عملية الانتقال السياسي في سوريا مرشحة لمزيد من التعقيد، نتيجة تداخل العوامل الطائفية، والتدخلات الخارجية، وانتشار المقاتلين الأجانب، وضعف مؤسسات الدولة. وتبقى احتمالية انفجار الوضع الداخلي مرهونة بمدى قدرة القوى المحلية والدولية على إعادة هيكلة المشهد السياسي والقانوني على أسس شاملة وعادلة وقدرتها على ترتيب اوراقها .
لذا على القيادة الحاكمة بدمشق والمجتمع الدولي منع انزلاق سوريا بحرب اهلية بمحيط هش.