منذ عام 2025، بدا واضحًا أن رئاسة الجمهورية لا تنظر إلى إعادة الإعمار كعملية مالية أو تقنية فحسب، بل كفرصة لإعادة تشكيل الدولة من أساسها. فمشروع دمج الوزارات، وإعادة توزيع الصلاحيات، وإنشاء صناديق وهيئات ذات طبيعة خاصة، لم يكن مجرد إصلاح إداري، بل خطوة لبناء هرم سلطوي متعدد المستويات:
- الدولة الصلبة: تمسك بها الرئاسة عبر الصناديق السيادية والهيئات الاستثنائية، فتعمل كجهاز محكم أشبه بشركة خاصة تتحكم بأصول الدولة وتعيد توجيهها.
- دولة الفقراء والهامش (Soft State): وهي الدولة التي يختبرها المواطن يوميًا عبر الوزارات الخدمية المثقلة بالبيروقراطية. تبحث هذه الوزارات عن حلول لأزمات الخبز والكهرباء والبطالة، لكنها في الوقت نفسه تصطدم بواقع سياسي متشابك، حيث تبرز قضايا الفيدرالية والانفصال إلى السطح. وهكذا تتحول إلى واجهة ضعيفة تستقبل الغضب الشعبي، فيما تبقى القرارات الاستراتيجية الكبرى محتجزة بيد الدولة الصلبة.
وبهذا التوزيع، انقسمت الدولة إلى مستويين متباينين: جهاز صلب يمسك بالأصول والقرارات الكبرى، وجهاز خدمي هش يغرق في البيروقراطية والأزمات اليومية، فيما يظل الفضاء السياسي والاقتصادي مفتوحًا على احتمالات الفيدرالية أو العودة إلى مركزية مشددة، من دون أن ينزاح النقاش يومًا نحو مساءلة الدولة الصلبة نفسها.
صندوق التنمية (SYDF) ووزارة الطاقة
صدرت المراسيم المتعلقة بإنشاء “صندوق التنمية” و”وزارة الطاقة” بشكل متزامن، وهو ما جعل المهام والوظائف بينهما متشابكة إلى حد كبير. هذا التشابك أثار شعورًا بأن وزارة الطاقة ليست أكثر من هيئة تنفيذية تابعة للرئاسة عبر الصندوق، الأمر الذي يفرض ضرورة توضيح الفروق بين الكيانين لفهم طبيعة الدور المرسوم لهما في هندسة الدولة الجديدة.
صندوق التنمية (SYDF) :
أُنشئ بموجب المرسوم 112 لعام 2025 ككيان مستقل يرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية. هدفه الأساسي هو تمويل مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية عبر التبرعات الدولية، القروض الحسنة، والهبات ، وهنا لابد من التذكير قانونيًا، لا يجوز للحكومة السورية قبول التبرعات مباشرة من الأفراد أو الجهات الخارجية، إذ يُلزم قانون الجمعيات والمؤسسات الخيرية رقم 35 لعام 2008 الجمعيات والصناديق الخيرية المرخصة فقط بإدارة أي تبرعات، لضمان الشفافية والمحاسبة، وتجنب أي انتهاك للعقوبات الدولية المفروضة على الدولة
هذه الصياغة تجعل صندوق التنمية لاعبًا رئيسيًا في التفاوض مع المنظمات الدولية، حيث تُمنح له أفضلية على المجتمع المدني بفضل صفته الرسمية ومرونته التنفيذية. إذ يحصل المتبرع في كثير من الحالات على مقابل مثل إعفاءات أو مزايا مالية، وإلا يصبح التبرع غير مجدٍ لتمويل المشاريع. هذه المرونة تمنح الصندوق قدرة على الاستحواذ على أصول الدولة المعطلة وتحويلها إلى مشاريع منتجة، ما يجعله أداة فعالة للسيطرة الاقتصادية والسياسية للرئاسة وكسب ولاء الوحدات الإدارية.
الصياغة تجعل صندوق التنمية لاعبًا رئيسيًا في التفاوض مع المنظمات الدولية، حيث تُمنح له أفضلية على المجتمع المدني بفضل صفته الرسمية ومرونته التنفيذية
وزارة الطاقة:
على الرغم من امتلاكها استقلالًا ماليًا وإداريًا بموجب المرسوم 150 لعام 2025، تبقى وزارة الطاقة كيانًا تنفيذياً حكومياً ضمن الجهاز الوزاري التقليدي. ميزانيتها محدودة ضمن الإطار السنوي، وتخضع للقوانين والروتين الإداري، ما يجعلها عرضة للبطء البيروقراطي وتأخر تنفيذ المشاريع.
هذا الوضع يجعل الوزارة أداة تنفيذية ضعيفة أمام الصناديق والهيئات الرئاسية التي تتمتع بصلاحيات خاصة ومرونة أكبر. في كثير من الحالات، يتم تحويل بعض المشاريع أو الموارد التابعة للوزارة إلى صندوق التنمية أو الصندوق السيادي، ما يُحوّل التمويل الحكومي التقليدي إلى مصدر خفي لدعم الأهداف الاستراتيجية للرئاسة. وبهذه الطريقة، تصبح الوزارة واجهة خدمية للمواطنين، لكنها غير قادرة على التحكم في الموارد الكبرى أو التأثير بشكل ملموس على القرارات الاقتصادية والسياسية، بينما تظل القرارات الاستراتيجية محصورة بيد الدولة الصلبة من خلال الصناديق والهيئات.
هذا الوضع يجعل من وزارة الطاقة أداة تنفيذية ضعيفة أمام الصناديق والهيئات الرئاسية التي تتمتع بصلاحيات خاصة ومرونة أكبر
مقارنة بين صندوق التنمية ووزارة الطاقة
الخاصية |
صندوق التنمية (SYDF) | وزارة الطاقة |
المرسوم المنشئ |
112/2025 |
150/2025 |
الطبيعة القانونية |
مؤسسة اقتصادية مستقلة |
وزارة حكومية |
الارتباط التنظيمي |
رئاسة الجمهورية مباشرة | ضمن الحكومة التنفيذية |
الوظيفة الأساسية | تمويل مشاريع إعادة الإعمار |
إدارة وتنفيذ السياسات في قطاع الطاقة |
الاستقلال المالي والإداري |
كامل مع مجلس إدارة مستقل | محدود ضمن الإطار الوزاري |
الطابع | تمويلي واستثماري |
تنفيذي حكومي |
المرسومان 112 و113: صندوق التنمية مقابل الصندوق السيادي
“صندوق التنمية (112)” يعد أداة تمويلية لإعادة الإعمار، يعتمد على التبرعات والهبات الدولية، ويختلف عن الصندوق السيادي في أنه لا يمتلك أصولًا حكومية للاستثمار، بل يقتصر دوره على التمويل والتسيير التنفيذي للمشاريع.
أما الصندوق السيادي (113)، فيستثمر الأصول الحكومية غير المستغلة، ويحوّل الموارد إلى مشاريع إنتاجية لتنمية الاقتصاد، مع مرونة قانونية وإدارية غير متاحة للوزارات التقليدية، التي تواجه بيروقراطية مطولة وموافقات متسلسلة من الرئاسة ومجلس الشعب.
كما يستثمر الصندوق السيادي بالموارد البشرية، ما يخلق تنافسًا حادًا مع الوزارات والقطاع الخاص على استقطاب الكوادر المؤهلة، ويقلل من فعالية الجهاز الحكومي ويمنح الصندوق ميزات تنافسية غير متاحة للجهات الأخرى، على غرار ما حصل مع شركات قابضة سابقة مثل شركة شام في نظام الأسد السابق، ويسهم في تكوين نخبة متميزة ضمن الحكومة الحالية.
استثمر الصندوق السيادي بالموارد البشرية، ما يخلق تنافسًا حادًا مع الوزارات والقطاع الخاص على استقطاب الكوادر المؤهلة، ويقلل من فعالية الجهاز الحكومي ويمنح الصندوق ميزات تنافسية غير متاحة للجهات الأخرى
وينص المرسوم 113 على أن للصندوق اعتمادات مخصصة من الدولة، وليس فقط الفائض، ما يعني أنه قد يحصل على جزء من الموازنة أو اعتمادات خاصة مثل “ضريبة إعادة الإعمار” التي أطلقتها الحكومة، ما يمنحه سيطرة مالية واسعة دون إمكانية مساءلته فعليًا قبل المستقبل. بهذا الشكل، يتحول الصندوق إلى كيان أشبه بشركة خاصة للرئيس، يتمتع باستقلالية إدارية ومالية ضمن إطار سلطته المركزية
مقارنة بين صندوق التنمية ووزارة الطاقة
الخاصية |
صندوق التنمية (SYDF) | وزارة الطاقة |
المرسوم المنشئ |
112/2025 |
150/2025 |
الطبيعة القانونية |
مؤسسة اقتصادية مستقلة | وزارة حكومية |
الارتباط التنظيمي | رئاسة الجمهورية مباشرة |
ضمن الحكومة التنفيذية |
الوظيفة الأساسية |
تمويل مشاريع إعادة الإعمار | إدارة وتنفيذ السياسات في قطاع الطاقة |
الاستقلال المالي والإداري | كامل مع مجلس إدارة مستقل |
محدود ضمن الإطار الوزاري |
الطابع |
تمويلي واستثماري |
تنفيذي حكومي |
الصلاحيات الاقتصادية للرئاسة وآليات الرقابة المحدودة
صدور المراسيم الرئاسية المتعلقة بالصناديق السيادية والهيئات تساؤلات مهمة حول الأساس القانوني لهذه القرارات. ينص الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار، في المادة 51، على أن “ستستمر العمل بالقوانين النافذة ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها”، ما يعني استمرار العمل بالدستور السابق والأنظمة القانونية القائمة، والتي كانت تمنح الرئيس صلاحيات واسعة. هذا السياق يمنح الرئاسة هامشًا كبيرًا لتفسير سلطاتها الاقتصادية، ويتيح توجيه الصناديق والهيئات وفق أولوياتها الاستراتيجية دون رقابة فعلية، مما يعكس استمرار نمط تركيز السلطة في المجال الاقتصادي.
القرارات السيادية للصناديق والهيئات تستند إلى المادتين 75 (الفقرة الخامسة) و101 من دستور 2012، وهو ما يمنح الرئيس سلطات واسعة فوق الدستورية. عمليًا، يمكن للصندوق السيادي بيع أو تخصيص أي أصل من أصول الدولة المعطلة دون الحاجة لموافقة مسبقة من مجلس الشعب، الذي يقتصر دوره على مراجعة الاتفاقيات وحق الطعن فيها وفق إجراءات تتطلب موافقة ثلثي المجلس. ومع أن هذا يبدو شكليًا، فإن الواقع يعزز من فعالية السيطرة الرئاسية، لأن أغلب أعضاء المجلس معينون بشكل غير مباشر من الرئاسة، كما أن المعلومات والبيانات المالية للصندوق خاضعة حصريًا للرئاسة، ما يجعل أي مساءلة مستقبلية محدودة ومرتبطة بالسلطة المطلقة للرئيس.
بهذه الطريقة، تتضح الدولة السورية بعد 2025 على ثلاثة مستويات ضمن سياسة الرئاسة، من خلال تنظيم الصندوق السيادي، الشركات القابضة، والهيئات الرئاسية، لتقديم رؤية واضحة لإعادة هندسة الدولة على مستويات متعددة. يمنح الصندوق السيادي الرئيس السيطرة المباشرة على الأصول الحكومية المعطلة وتحويلها إلى مشاريع إنتاجية، وحتى استحواذه على الأصول المتوافقة مع خططه، مع مرونة قانونية وإدارية غير متاحة للوزارات، ما يجعله أداة اقتصادية وسياسية فعّالة.
في المقابل، تعمل الشركات القابضة على استهداف القطاع الخاص وربطه بالدولة، وهي حالياً غير فعّالة لكنها قابلة لإعادة التفعيل في المستقبل، ما يعزز النفوذ الاقتصادي والسياسي للرئاسة ويتيح ربط مصالح القطاع الخاص بالاستراتيجية الرئاسية. بينما تمثل الهيئات الرئاسية أداة لتوجيه الموارد الاقتصادية والاجتماعية نحو الفئات الأكثر حاجة، لكسب ولائها وتجنيبها أي ميل للمعارضة، مع الحد من رقابة المجتمع المدني والتدخل الدولي، لتصبح قناة مباشرة لتعزيز الولاء السياسي.
بهذا التوزيع، تتشكل صورة الدولة متعددة المستويات: دولة صلبة تتحكم بالأصول والموارد الكبرى، دولة خدميّة تتعامل مع المواطنين في حياتهم اليومية، وفضاء وسيط يسمح للرئاسة بمواءمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية مع أهدافها الاستراتيجية، دون قيود حقيقية من البرلمان أو القطاع الخاص.