منذ سنوات الحرب السورية، أصبحت العقوبات الأميركية على سوريا واحدة من أبرز أدوات التأثير السياسي في المنطقة، وسلاحًا يعيد ترتيب مواقع اللاعبين في الملف السوري. ورغم أن الإعلام غالبًا ما يصوّر هذه العقوبات على أنها أداة سياسية لمعالجة النزاع السوري، إلا أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدمت منظورًا مختلفًا تمامًا.
في عهده، تحولت العقوبات إلى ورقة مساومة اقتصادية وتجارية، تُستخدم لابتزاز المنطقة وتحقيق مكاسب سياسية ضيقة، بعيدًا عن النهج التقليدي الطويل الأمد للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ففي كل مرة يُلمّح ترامب إلى إمكانية تخفيف العقوبات أو فتح قناة تفاوض مع دمشق، يسبق ذلك غالبًا اتفاق تجاري أو تفاهم اقتصادي مع السعودية ضمن مؤتمرات استثمارية واضحة.
هذا النمط المتكرر يكشف أن السياسة بالنسبة لترامب ليست أيديولوجيا، بل معادلة بسيطة: من يدفع، يتحكم بالقرار.
من يدفع، يتحكم بالقرار
وقد وجدت الحكومة السورية الجديدة نفسها مضطرة للعب ضمن هذا الإطار الأميركي الجديد، فتعامَلت مع الأمور وكأنها صفقة تجارية قابلة للمقايضة، وظهرت مقولة “من يحرّر يقرر” لتعكس هذا المنطق، وهو ما أسهم في تناغم الحكومة السورية مع الوسيط الأميركي توماس براك في مراحل عدة من التفاوض.
أحمد الشرع: ورقة تفاوض اقتصادية أم وهم سياسي؟
لم يعد دور الاقتصادي في حكومة أحمد الشرع الانتقالية مقتصرًا على النفوذ المالي أو إدارة الثروات وشراء الولاءات المحلية، بل أصبح بالنسبة له ورقة تفاوض استراتيجية مع السياسيين الأميركيين.
فهو يسعى لتحويل السياسة الامريكية و الدولية إلى أرقام ملموسة، مما يخفف من تدخلهم بسياساته الداخلية بهدف البحث عن فرصة لإعادة ترتيب صفوفه وتنظيم مؤسسات حكومته، كما حدث سابقًا في إدلب.
أحمد الشرع يسعى لتحويل السياسة الامريكية و الدولية إلى أرقام ملموسة، مما يخفف من تدخلهم بسياساته الداخلية بهدف البحث عن فرصة لإعادة ترتيب صفوفه وتنظيم مؤسسات حكومته، كما حدث سابقًا في إدلب
مع ذلك، تغفل حكومة الشرع أن هذه السياسة غير مقبولة لدى جميع أركان الإدارة الأميركية، كما أن القوى الإقليمية الأخرى تنظر إلى الملف السوري من منظور أمنها القومي، حيث يشكل الملف السوري بالنسبة لبعضها ورقة انتخابية ولأخرى مسألة استقرار بلدانها.
لذلك، جاءت الرسائل الأميركية حول حكومة الشرع معقدة ومتناقضة:
- من جهة، كان الرئيس ترامب وإدارة خارجيته مدفوعين برغبة السعودية، وبعض التحركات الخفية والحذرة من قطر وتركيا، لدعم حكومة الشرع والسماح بالاستثمارات الدولية بالانطلاق.
- من جهة أخرى، أبدى أعضاء في وزارة الدفاع والكونغرس الأميركي والكونغرس حذرهم من منح التيار السلفي الفرصة لإعادة بناء الدولة اقتصاديًا وعسكريًا، خوفًا من أن يكون الثمن لاحقًا أكبر على الولايات المتحدة، خاصة في ظروف يصعب فيها تتبع استخدام الدعم.
بناءً على هذا التناقض، باتت حكومة الشرع يُنظر إليها كفرصة اقتصادية مؤقتة، في حين أن الاعتماد عليها كأداة سياسية مستمرة يظل وهمًا لا يمكن تعويله على المدى الطويل.
كومة الشرع يُنظر إليها كفرصة اقتصادية مؤقتة، في حين أن الاعتماد عليها كأداة سياسية مستمرة يظل وهمًا لا يمكن تعويله على المدى الطويل.
قانون قيصر وتأثير العقوبات على الاقتصاد السوري
جعلت حكومة أحمد الشرع من قانون قيصر هدفًا استراتيجيًا لها، نظرًا لتعقيده الذي يجعل إزالته بمثابة رفع أي عقوبات أخرى مرتبطة بسوريا. تبدأ عملية الإزالة بالاعتراف بالحكومة الحالية، المنبثقة من التيار السلفي الجهادي، مما يجعل أي قانون يجرم هذه الحكومة متناقضًا مع رفع العقوبات عن الحكومة المركزية. وبذلك، تنتهي العقوبات التي فرضت بموجب قانون محاسبة سوريا وغيرها من القوانين السابقة.
كما يسهل القانون حركة الأموال والقنوات المالية، سواء عبر الاستفادة من الأموال السلفية العابرة للحدود أو الاستثمارات المحلية، ويشمل رفع العقوبات عن قطاع الطيران، وهو اعتراف ضمني بأن حكومة الشرع لا علاقة لها بأحداث 11 سبتمبر أو بالإرهاب. ويعد قطاع الطيران مؤشرًا على اتجاه العقوبات ويفتح المجال أمام إعادة الإعمار، التي كانت ممنوعة سابقًا، ويعتبر ذلك جزءًا من التعويم السياسي لأي حكومة سورية.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، تعتمد حكومة الشرع على استراتيجية مزدوجة:
-
طرح اسم الرئيس كشخصية قابلة للتفاوض بعيدًا عن الأسماء التقليدية المثيرة للجدل، بما يجعلها مقبولة داخليًا ودوليًا.
-
فتح قناة تفاوض تمنح الحكومة هامشًا للمناورة الداخلية، يسمح لها بترتيب أوراقها وإعادة تنظيم مؤسساتها ضمن سياق رؤيتها التقليدية.
السعودية بين الاستثمار والرهان السياسي في سوريا
أعلنت السعودية منذ البداية موقفًا داعمًا للتغيير في سوريا، بعدما وصل المسار السياسي مع نظام الأسد إلى طريق مسدود. ورغم أن الحكومة الحالية تُنسب إلى تيار سلفي تسعى المملكة إلى الحد من نفوذه داخل حدودها وفق رؤيتها السياسية الداخلية، إلا أن الرياض رأت أن نجاح هذا التوجه يتطلب تجفيف مصادر الدعم الخارجي لهذا التيار، وجزء من هذا الدعم مرتبط مباشرة بالساحة السورية.
لذلك، اتجهت السعودية إلى تجهيز حزم استثمارية ضخمة لإعادة الإعمار، في محاولة لدفع التيار السلفي نحو الانشغال بالمجال الاقتصادي بدلًا من الخطاب الديني، مما يضعف قدرته على استقطاب التأييد الشعبي ويحوّله إلى لاعب يبحث عن الموارد لا عن الشرعية العقائدية.
لكن هذا المسار يبقى محفوفًا بعدة تحديات:
-
العقوبات الاقتصادية، وخاصة قانون قيصر، الذي يشكل العائق الأكبر أمام تدفق الاستثمارات والأموال.
-
الخوف من انتكاس الحكومة السورية نحو النهج السلفي مجددًا، مما يعني أن السعودية قد تكون — دون قصد — تموّل خصمًا سياسيًا أو أمنيًا لها.
-
احتمال دخول دول منافسة على خط الاتفاقات الاستثمارية، مما يجعل الدعم السعودي غير مؤثر على القرار السياسي داخل سوريا.
ضمن هذا السياق، تسعى السعودية إلى إزالة العقوبات أولًا، ليس كهدف اقتصادي فحسب، بل كمدخل للتحكم في القرار السياسي السوري. فرفع العقوبات يعني أن المملكة ستصبح الضامن الأكبر، وبالتالي تمتلك نفوذًا فعليًا عبر أدوات القوة الناعمة:
الاستثمارات، التحكم المالي، النفوذ داخل المؤسسات، وحتى التأثير على القوى العسكرية.
وفي الوقت ذاته، تدرك المملكة أن نجاح هذا المسار يتطلب تفاهمات دولية واسعة، ليس فقط مع إدارة ترامب، بل مع كامل المؤسسات الأميركية، ومع إسرائيل وتركيا وقطر وروسيا. هذه المفاوضات غير المعلنة — إن صح وصفها بالمفاوضات — هي التي تؤخر التوصل إلى توافق دولي حول مستقبل سوريا.
وفي المقابل، يبقى التحدي الأكبر داخل سوريا نفسها، فالحكومة الحالية تحمل تناقضات بنيوية مرتبطة بالمكونات الإثنية والسياسية، ما يجعل التعامل معها معقدًا، ويضع الاستثمار والرهان السياسي في خانة المخاطرة المحسوبة.
ترامب وصفقات الخليج: السياسة الاقتصادية قبل التصريحات
التحركات الأميركية الأخيرة تؤكد نهج ترامب البراجماتي: الصفقات التجارية تسبق التصريحات السياسية.
فكل زريارة امريكية استثمارية ترنعكسس على تطلعات السعودية التي جزء منها في سوريا فنرى تصريحات من ترامب ايجابية على سوريا بل و استخدام نفوذه للضغط على انسداد الافق في التفاض بين الادارة السورية و الادارة الامريكية، ، لكنّ ذلك لا يعني أن جميع الملفات تسير وفق رؤيته أو تُحسم بسهولة. فموضوع التطرّف الإسلامي تحديدًا ملف حساس جدًا، لأنه يرتبط مباشرةً بمؤسسات متعددة داخل الولايات المتحدة، مثل وزارة الدفاع، والاستخبارات، ووزارة الخزانة، إضافة إلى مراكز القوى المرتبطة بـ رأس المال الأميركي وتأثيره السياسي.
وبناءً على ذلك، فإن أي دعوة أو إشارة من ترامب تجاه النظام السوري لا تأتي مجانًا أو بطريقة عفوية، وانما ثمن باهظ على السعودية التي باتت تراهن عليه بجزء كبير من سياساتها الخارجية ‘، وهذا هو فحوى تصريح ترامب حلو دعوة الشرع لواشنطن و ودعمه رفع العقوبات رغم ان الكونغرس اليوم شبه معطّل نتيجة الخلافات الداخلية حول ميزانية وزارة الدفاع، بينما عدد من أعضائه في إجازة، ما يجعل الإدارة الأميركية — وتحديدًا وزارة الخارجية — تحاول استثمار الفراغ السياسي لإحداث ضغط عبر فتح قنوات اتصال مع الرئيس السوري.
لتوقيع معه على انضمامه للتحالف دولي لمحاربة داعش( التطرف الديني) وتوفيع اتفاق امني يخول اسرائيل بمحاربة التهديدات التي تخيفها من جماعات فلسطتينية الى ايرانية وتركية و عراقية و ايرانية والفكر الاسلاامي المتشدد و الاسلحة الكيماوية والبالستية و الاجانب..الخ .، وعدم التعدي على قسد لانهن يصبحوا عضوان ويعطي للاخير امكانية وصول داخل باقي المحافظات كما ان الاجتماع هذا يطلب من سورية ان تواجه نفود ايارن العسكرية السيساي الذي يعاد بنائه بسورية بالاعاتماد على تجارة المخدرات و الاخطاء التيار الرادكلي ، كل ها ما يخيف اسرائيل التي ترى بجاتها سوريا تتحول الى قنبلة من الفوضة رداكالية .
ترامب وصفقات الخليج: الاقتصاد قبل السياسة
تؤكّد التحركات الأميركية الأخيرة أن إدارة دونالد ترامب تتعامل مع الملف السوري بمنطق البراغماتية التجارية، لا بمنطق السياسة التقليدية. فكل زيارة أو اجتماع استثماري بين واشنطن ودول الخليج — وتحديدًا السعودية — ينعكس مباشرة على نبرة وتصريحات ترامب تجاه سوريا. وما إن تلوّح الرياض باستثمارات جديدة أو تسهيلات اقتصادية، حتى يظهر ترامب بمواقف أكثر مرونة تجاه دمشق، مستخدمًا نفوذه داخل المؤسسات الرسمية لفتح مسار تفاوض سياسي أو طرح فكرة تخفيف العقوبات.
الصفقات الاقتصادية تسبق التصريحات السياسية
لكن ذلك لا يعني أن سوريا أصبحت ملفًا تتحكم فيه رغبات ترامب وحده، فهناك ملفات شديدة الحساسية لا يمكن تجاوزها بمجرّد صفقة أو تفاهم، وفي مقدمتها ملف التطرف الديني (“الإسلام الجهادي”)، وهو ملف تابع لمسارات مؤسساتية داخل الولايات المتحدة، أبرزها:
-
وزارة الدفاع (البنتاغون)
-
وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)
-
وزارة الخزانة الأميركية
-
مراكز النفوذ المرتبطة برأس المال الأميركي ولوبيات الضغط السياسية
لذلك، أي خطوة تتخذها إدارة ترامب باتجاه دمشق لا تأتي مجانًا، بل تُسعّر ضمن معادلة المقايضة:
السياسة مقابل المال… والاستقرار مقابل النفوذ.
السعودية هنا أصبحت لاعبًا محوريًا، فهي تراهن على ترامب كقناة لفتح ثغرة في جدار العقوبات الأميركية على دمشق، مقابل مكاسب استراتيجية في ملفات أخرى.
ومن هنا يمكن فهم جوهر تصريحات ترامب حول إمكانية دعوة أحمد الشرع إلى واشنطن ودعم فكرة الرفع التدريجي للعقوبات. هذه التصريحات تأتي في ظل شلل شبه كامل في الكونغرس بسبب الخلافات على ميزانية وزارة الدفاع، في وقت يدخل فيه عدد من النواب في إجازة رسمية، ما يمنح وزارة الخارجية مساحة أكبر للتحرّك وفتح قنوات اتصال مباشرة مع دمشق.
السعودية تفع اقتصاداً و ترامب يدفع سياسياً
الرابح والخاسر: انضمام سوري إلى تحالف دولي مقابل رفع العقوبات
وفق ما يتداول في الكواليس، تتضمن “الصفقة” التي يجري إعدادها أن تقوم دمشق بتوقيع اتفاق يشمل البنود التالية:
-
انضمام سوريا رسميًا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش” والتطرّف الديني، بما يشمل المقاتلين الأجانب المنخرطين ضمن تشكيلات عسكرية مرتبطة بوزارة الدفاع الأميركية.
-
تفاهم أمني يمنح إسرائيل حق تنفيذ ضربات داخل الأراضي السورية ضد أي تهديد تعتبره خطرًا على أمنها، بما في ذلك:
-
مجموعات فلسطينية مسلّحة
-
وجود عسكري أو استخباراتي إيراني
-
نشاط ميليشيات تركية أو عراقية أو شيعية عابرة للحدود
-
-
تعهّد سوري بعدم امتلاك أو تطوير صواريخ بالستية.
-
التوقف عن استهداف “قوات سوريا الديمقراطية (قسد)” والسماح بدمجها داخل المشهد الأمني كشريك محلي.
-
الحد من النفوذ الإيراني داخل سوريا عبر تفكيك شبكات التهريب والتمويل المرتبطة بالمخدرات والسلاح.
-
التعهد بعدم تطوير أو استخدام الأسلحة الكيميائية أو نقلها لأي طرف آخر.
هذه الشروط تعكس مستوى القلق الإسرائيلي من تحولات المشهد السوري، حيث ترى تل أبيب أن سوريا باتت مهددة بالتحول إلى:
“قنبلة فوضى راديكالية” على حدودها، مدعومة بشبكات إيرانية وتمويل من تجارة المخدرات.
لتبقى الأسئلة الحاسمة في نهاية هذه الصفقة : هل ستقبل دمشق بهذه الشروط التي تمسّ جزءًا أساسيًا من نفوذها وسيادتها؟ وهل يعتبر رفع العقوبات ثمنًا كافيًا مقابل التخلي عن تحالفاتها التاريخية وأوراق قوتها؟
أم أن ما يحدث مجرد مفاوضات لكسب الوقت وإحراج الأطراف عبر تعقيد التفاصيل لإطالة أمد التفاوض دون تقديم تنازلات حقيقية؟
الجواب ما يزال معلقًا، لأن كل طرف يدرك أن هذه الصفقة لا تتعلق بسوريا فقط، بل بإعادة توزيع النفوذ الإقليمي بين واشنطن، الرياض، طهران وتل أبيب.

