في خطوة لافتة تحمل أبعاداً تتجاوز اللغة الاقتصادية التقليدية، عقد الرئيس أحمد الشرع اجتماعاً تمهيدياً مع الشركة السورية للبترول SPCوشركة شيفرون الأمريكية، لبحث فرص التعاون في استكشاف موارد النفط والغاز قبالة السواحل السورية.
حضور شخصيات سياسية واقتصادية رفيعة، مثل المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك، ووزير الخارجية أسعد حسن الشيباني، والرئيس التنفيذي لـ SPCيوسف قبلاوي، إضافة إلى وفد شيفرون ورئيس مجلس إدارة شركة UCC العالمية معتز الخياط، يكشف أن ما يجري أبعد بكثير من كونه اجتماعاً تقنياً حول عقود إنتاج مستقبلية.
هذا التحرك يعكس تحوّلاً في المقاربة الأمريكية للملف الاقتصادي السوري، انتقالاً من مرحلة السيطرة الميدانية في الشمال الشرقي إلى البحث عن شرعية استثمارية مستدامة تضمن استمرار الحضور الأمريكي وتأثيره في مفاصل الاقتصاد السوري الحيوي، وفي مقدمتها الطاقة.
اقتصاد فوق نار السياسة: سوريا بين خطوط الطاقة وسباق النفوذ الدولي
من يتابع حركة الرئيس أحمد الشرع ووزير خارجيته في الأسابيع الأخيرة، يلاحظ أننا أمام سباق دبلوماسي غير مسبوق. تنقّل مكّوكي بين عواصم القرار الدولي، واتصالات متشابكة مع منافسين دوليين في الملفات ذاتها. كل ذلك يحدث في وقت تتحرك فيه القوى الكبرى لرسم خريطة جديدة للمصالح الاقتصادية في سوريا، وتحديداً تلك المرتبطة بالطاقة وطرق النقل.
سوريا اليوم ليست بلداً يبحث عن استثمارات فقط، بل أصبحت مفترق طرق دولي تتحكم بالجغرافيا التي تمر عبرها خطوط الغاز والنفط والطرقات التجارية. لذلك، من الطبيعي أن تتحول إلى ساحة تنافس محتدم بين اللاعبين الدوليين.
ما الذي يدفع الشرع لهذه الوتيرة المتسارعة؟
الحكومة الحالية تبحث عن شرعية اقتصادية قبل أي شيء آخر — داعمون حقيقيون، مشاريع قابلة للتنفيذ، وأموال تعيد دفع عجلة الاقتصاد المتعثر. وهي مستعدة لتحقيق ذلك مهما كان الثمن، ما دام سيؤدي إلى تثبيت حكمها وبناء شبكة تحالفات جديدة.
ولأن الاقتصاد أصبح هو اللعبة الأولى في العالم، فإن:
-
النفط والغاز في الشمال والبحر
-
الفوسفات في البادية
-
الطرق العابرة للقارات عبر سوريا نحو المتوسط
لم تعد موارد محلية ريعية ، بل اصبحت أوراق تفاوض دولية بيد الشرع لتثبيت حضوره الدولي .
من النفط إلى الطرق… التحالف الأمريكي-القطري يعيد رسم سوريا
وجود شركة أمريكية كبرى مثل شيفرون إلى جانب شخصيات قطرية مثل آل الخياط في الاتفاقات السورية لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل يشير إلى تحالف نفوذ سياسي واستراتيجي يجمع بين أدوات مالية واستثمارية وسياسية متشابكة.”
- الطاقة تحت الحماية: التحالف الأمريكي-القطري يحكم البنية التحتية السورية:
شراكة قطر مع شيفرون تمنح الدوحة قدرة استراتيجية على توجيه الاستثمارات والتحكم المالي في قطاع الطاقة، وتتوسع في سوريا عبر UCC وآل الخياط لتصبح شيفرون شريكًا مباشرًا في مشاريع الخياط المليارية للطاقة والبنية التحتية. وجود شيفرون وUCC يخلق هيكل تحالف متكامل، حيث توفر قطر التمويل والقدرة الاستثمارية، بينما تتولى شيفرون الإدارة والتشغيل والحماية الدولية لشركاء لضمان استقرار المشاريع وفق معايير عالمية، ويقدم الرئيس أحمد الشرع الشرعية المحلية وحماية الأرض مما يثبت بحكمه و يقدم له نفوذ اقتصادي . هذا التعاون يحول المشاريع إلى أصول استراتيجية محمية، ويعزز القدرة على ضبط شبكات النقل والطاقة الحيوية، مما يقلل فرص أي منافسة خارجية أو تهديد صعبًا التنفيذ.
-
واشنطن تبحث عن موطئ قدم دائم في الطاقة السورية:
الهدف الأمريكي يتجاوز الإنتاج النفطي والغازي، ليشمل شبكات النقل والتجارة الاستراتيجية عبر الأنابيب والطرق البرية والجوية، مما يعزز التعاون مع شيفرون وقطر في سوريا. هذه الشبكات تشكل أداة نفوذ رئيسية، تمكن الولايات المتحدة والدوحة من توجيه مسارات الطاقة الإقليمية والتحكم في تدفق الموارد. كما يمنح التحالف القدرة على النفوذ البحري، ويحد من تأثير روسيا وتركيا، ويطمئن إسرائيل، ويفتح احتمالات لإقامة قاعدة عسكرية أمريكية بالساحل ضمن إطار تثبيت الحضور الاستراتيجي في المنطقة.
-
تحالف اقتصادي ذو بعد سياسي:
كل تقدم في مشاريع الطاقة السورية لا يقتصر على المكاسب الاقتصادية، بل يعكس إعادة رسم خريطة النفوذ الدولي في سوريا. توسع الاتفاقات النفطية والغازية وشبكات النقل المرتبطة بها يحد من قدرة روسيا على إعادة تنشيط بعض الاتفاقات القديمة لاعادة نفوذها ، ويعيق التوسع السريع للصين في سوريا . لذلك، يشكل التحالف الأمريكي-القطري ورقة استراتيجية قوية تجمع بين البعد الاقتصادي والسياسي، وتعيد ضبط موازين النفوذ في المنطقة..
-
تجنب سيناريو العراق:
شيفرون تبدي حرصًا واضحًا على تثبيت عقود الاستثمار في الشمال الشرقي بعيدًا عن تعقيدات المسار السياسي، مستفيدة من التجربة العراقية حيث أدت الخلافات بين بغداد وأربيل إلى تجميد المشاريع. الهدف هو صياغة نموذج اقتصادي مستقل يضمن استمرار الاستثمار الأمريكي بغض النظر عن شكل الحل السياسي النهائي في سوريا بين قسد و حكومة دمشق ، وتريد تثبيت سيطرتها على الحقول النفط هناك وتحيدها من الصراع .
5. توسع أمريكي محتمل خارج حدود النفط:
شركة شيفرون لن تقتصر على العقود الحالية مع UCC، فالنفط يشكل الباب الأول فقط. التوسع يشمل مشاريع التكرير الداخلي، استثمار الفوسفات، وصناعات السليكات والمواد المرتبطة بقطاع الطاقة. هذه القطاعات مرتبطة اليوم بشبكات النفوذ الروسية والإيرانية، ما يجعل أي تدخل أمريكي محتمل مدخلًا لاحتكاك مصالح على الأرض السورية، ويعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي ويوازن القوى بين الأطراف الإقليمية والدولية في البلاد.
الاقتصاد كأداة لرسم خرائط النفوذ
من الواضح أن هذه المشاريع لا تمثل مجرد رؤية اقتصادية عاجلة التنفيذ، بل هي تموضع جيواستراتيجي يهدف إلى تثبيت النفوذ الأمريكي في سوريا. تشمل الأهداف الأساسية:
-
تكريس حضور أمريكي طويل الأمد في قطاع الطاقة والبنية التحتية.
-
تجميد المنافس الروسي وتقليص دوره في القرار الاقتصادي والسياسي السوري.
-
تحويل السيطرة على الطاقة من ورقة عسكرية إلى أداة استثمارية واستراتيجية.
بمعنى آخر، يسعى التحالف الأمريكي-القطري إلى تثبيت النفوذ عبر الاقتصاد بدل الاعتماد على القوة العسكرية، ما يعكس تحولا في أدوات التأثير على الأرض السورية.
ليس الهدف الأمريكي الحالي إنتاج النفط السوري بقدر ما هو إنتاج معادلات نفوذ جديدة. فالاستثمار في قطاع الطاقة يمثل بالنسبة لواشنطن أداة لإعادة تعريف مستقبل الاقتصاد السوري ورسم حدود التأثير بين القوى المتصارعة. وفي الوقت الذي ينتظر فيه المواطن السوري أي تحسن اقتصادي ملموس، تستمر القوى الكبرى في النظر إلى موارد البلاد كأداة لتثبيت حضورها الاستراتيجي، لا كوسيلة لتمويل تعافي الدولة.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستتحول هذه الاجتماعات إلى مشاريع فعلية على الأرض، أم أننا أمام خرائط نفوذ تُرسم على الورق قبل التنفيذ الفعلي؟

