أحمد الكناني
شكل سقوط نظام الأسد فراغًا إداريًا واسعًا في البلاد، إذ ارتبطت مفاصل الدولة الحساسة بأركانه التي فرت معه إلى موسكو، أو هربت خارج البلاد بعد التحرير مباشرة، وعليه عملت “حكومة الإنقاذ” منذ فجر الـ 8 من كانون الأول/ ديسمبر على استلام إدارة البلاد بالتنسيق مع آخر رئيس حكومة في عهد الأسد محمد غازي الجلالي، وذلك لقيادة المرحلة الانتقالية، وأخذ إدارة البلاد على عاتقها بشكل مباشر.
مع مرور عام على سقوط نظام الأسد أقرت السلطة الجديدة العديد من التغييرات الإدارية والحكومية، والتعديلات الجوهرية داخل المؤسسات، في إجراءات تهدف إلى إعادة هيكلية مؤسسات الدولة، الأمر الذي تخلله العديد من الأخطاء حسب خبراء، فيما يرى آخرون أن إجراءات الحكومة شكلت بيئة خصبة لإعادة الهيكلية المنهكة في المفاصل الحكومية.
تقييم إداري
يرى الأكاديمي والباحث مروان حمي أن ملف الإصلاح الإداري في سوريا ما بعد الأسد بدأ فعليًا في كانون الأول/ ديسمبر 2024 مع تشكيل حكومة تصريف الأعمال، ومن ثم الحكومة الانتقالية في آذار/ مارس 2025، وحققت سلسلة من الإنجازات الجزئية، كخطوة أولية نحو إعادة الهيكلة المؤسسية، إلا أنها تفتقر إلى العمق الاستراتيجي والاستدامة اللازمة لتحقيق تحول نوعي، حيث صدرت مراسيم رئاسية في أيار/ مايو لإعادة تنظيم الوظائف القيادية وتقييم الأداء السنوي بنسبة 60% كحد أدنى للإبقاء، إلا أن ذلك لا يُعد تقدمًا في مكافحة الفساد المؤسسي المتصاعد بعد سقوط الأسد، لاسيما تعيين معظم الوزراء التابعين لهيئة تحرير الشام في الحكومة، واعتماد مبدأ الولاءات بالدرجة الأولى.
يتطلب ملف الإصلاح المؤسساتي استراتيجية متكاملة لبناء نظام حكومي مستدام يعتمد على مبادئ الشفافية والكفاءة والمساءلة
ويؤكد الخبير الاقتصادي يونس الكريم أن ملف الإصلاح الإداري في سوريا يظل من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا، إذ يحمل في طياته جوانب إيجابية وأخرى سلبية. فمن الناحية الإيجابية، فتح هذا الملف الباب أمام إعادة هيكلية المؤسسات الحكومية بشكل كامل، بما يسمح بتبسيط الإجراءات وتجاوز الروتين الذي لطالما شكّل عائقًا أمام المواطنين والموظفين على حد سواء، كما ساهم في معالجة الترهل الإداري عبر تسريح أعداد كبيرة من الموظفين غير الفاعلين بطريقة هادئة، دون أن يثير ذلك اعتراضات شعبية واسعة، وهو ما يُحسب للحكومة كخطوة أولية نحو ترشيد الجهاز الإداري.
وفي جانب آخر، يرى الكريم أن هذه الخطوات، رغم أهميتها، تبقى محدودة الأثر ما لم تُستكمل بإصلاحات تشريعية وثقافية جذرية، فالإصلاح الإداري لا يمكن أن يقتصر على تسريح الموظفين أو إعادة توزيعهم، بل يجب أن يترافق مع إعادة بناء المنظومة القانونية والإدارية بما يضمن الشفافية والعدالة في التوظيف والترفيع، وإلا فإن الإصلاح قد يتحول إلى مجرد عملية شكلية أو أداة لتصفية الجهاز الوظيفي من دون إيجاد بدائل حقيقية تعزز الكفاءة وتخدم المصلحة العامة، لافتًا إلى أنه على الرغم من قيام بعض الوزارات بإعادة هيكلة نفسها عبر الدمج أو الإلغاء، فإن ذلك عقّد العمل في بعض مفاصل الدولة وأربك العديد من القرارات الحكومية، عدا عن التصريحات الحكومية التي ما زالت أكبر بكثير من حجم الإنجازات الفعلية.
معايير مرجعية
يوضح الأكاديمي حمي مجموعة المعايير الإدارية التي اعتمدتها السلطة الجديدة خاصة بعد الإعلان الدستوري، والمستمدة ظاهريًا من منظمة الأمم المتحدة للتنمية الإدارية (UNDP2025)، والتي تُرْكز على الكفاءة والشفافية والشمولية، إلا أن تطبيقها يكشف عن تناقضات جوهرية وفشل في التنفيذ، حيث حددت المعايير الرئيسة لترشيح الوزراء والقيادات، وتصنيفات العاملين، وفقًا للمرسوم رقم 45 لعام 2025، إلا أنه يتضح سيطرة المقربين من هيئة تحرير الشام على 70% من الحقائب السيادية مما يخرج المعايير عن مسارها نحو الولاءات السياسية بدلًا من المهنية.
يضيف الخبير الاقتصادي الكريم أن معيار الولاء السياسي والأمني يأتي بالدرجة الأولى في التعيينات، يليه المعيار الديني، ثم مدى علاقات الشخص الدولية، في حين يأتي المؤهل العلمي في إطار شكلي أكثر منه كأساس اختيار فعلي، لافتًا إلى أن غياب الشفافية في التعيينات والقرارات، وعدم وجود مسابقات أو معايير واضحة للتوظيف، جعل الجهاز الإداري يفتقر إلى قواعد مؤسسية عادلة.
كما نوه الكريم إلى أن الحكومة حاولت تدارك بعض قصورها عبر الدورات التدريبية للكوادر في مؤسسات حساسة مثل وزارة الخارجية، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة توافق هذه البرامج مع مهارات الأشخاص الذين جرى تعيينهم أساسًا وفق الولاءات، ويرى أن هذه السياسات مجتمعة سوف تؤدي إلى ترهل إداري واسع قريبًا، وانعكاس سلبي على إنتاجية مؤسسات الدولة.
قانون عاملين.. ولكن
بحسب الأكاديمي حمي يعد قانون العاملين الأساسي رقم 50 لعام2004 ، الإطار التقليدي لتنظيم العلاقات الوظيفية في القطاع العام، وهو غير مفعل في المرحلة الانتقالية، حيث أوقفته الحكومة الجديدة، مما أدى إلى فراغ تشريعي يعرِض نحو 1.2 مليون موظف حكومي لعدم الاستقرار في الحقوق والتعويضات، إلا أن ثمة بديلًا قانونيًا مُطورًا قيد الإعداد والتطبيق الجزئي هو مشروع “قانون الخدمة المدنية” الذي أَصدرته وزارة التنمية الإدارية في حزيران/يونيو 2025 عبر القرار رقم 302، والذي يعتمد إطارًا تنظيميًا مرنًا، لكن التتبع الإداري لما سبق يعكس فشلًا في التطبيق من حيث نظام الإعارة والندب، وإثارة المخاوف من تسريحات تعسفية بلغت 20% من الموظفين في الوزارات السيادية.
فيما يعتقد الخبير الاقتصادي الكريم بأن “قانون الخدمة المدنية” يشوبه العديد من الثغرات القانونية والتشريعية، لأنه صادر عن سلطة مؤقتة وليست دائمة، في ظل غياب مجلس الشعب والنقابات التي تدافع عن حقوق العاملين. وبالتالي، فهو أقرب إلى صيغة إذعان منه إلى قانون شرعي ينظم العلاقة بين الدولة والموظفين، لافتًا إلى ضرورة وضع سقف للأجور في مؤسسات الدولة، إذ أن غياب هذا السقف سيؤدي إلى تفشي الفساد، خاصة مع وجود رواتب تصل إلى 20.000 دولار، في حين أن موظفين سابقين في حقبة النظام السابق لا تتجاوز رواتبهم 150 دولارًا.
إصلاح إداري
يتطلب ملف الإصلاح المؤسساتي استراتيجية متكاملة لبناء نظام حكومي مستدام يعتمد على مبادئ الشفافية والكفاءة والمساءلة، ويتم ذلك حسب الخبير الاقتصادي يونس الكريم بتفعيل المجلس التشريعي والمجتمع المدني والنقابات المعنية بحقوق العاملين، باعتبارهم المدافعين الأساسيين عن حقوق العمال والموظفين. مشددًا على أهمية إعادة دراسة قانون الخدمة المدنية بعد صدور العديد من التعيينات المخالفة لأحكام القانون الجديد، وتفعيل الهيئة العامة للتنمية الإدارية داخل المؤسسات الحكومية بشكل أكثر فاعلية في المتابعة والتقييم، على أن تكون هيئة مستقلة لا تتبع لأي وزارة، لضمان حيادها، وممارسة دورها الرقابي والإشرافي بكفاءة.
المصدر: الترا سوريا.

