لم تغب السويداء عن المشهد السوري منذ انضمامها المبكر إلى الثورة ضد بشار الأسد، إذ شكّلت، بوصفها محافظة كاملة ذات خصوصية إثنية واضحة، عاملًا مفصليًا أسقط إحدى أهم ركائز سرديات النظام. فقد مثّل موقفها نسفًا مباشرًا لادعاء “حماية الأقليات”، وعرّى محاولات النظام تصوير الثورة بوصفها حركة طائفية أو مشروعًا إخوانيًا. غير أن هذا التفكيك لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما أُعيد إنتاج المشهد بفعل صعود التيارات المتشددة، في سياق تدخلات إقليمية ودولية أعادت توجيه الصراع بما يخدم توازنات خارجية أكثر من كونه تعبيرًا عن إرادة داخلية.
ومع سقوط نظام الأسد ووصول التيار الإسلامي المتشدد، المتمثل بـ«هيئة تحرير الشام»، إلى السلطة بدعم إقليمي ودولي شمل قطر وتركيا والولايات المتحدة، وضمن تفاهمات غير معلنة مع روسيا، دخلت البلاد مرحلة سياسية جديدة. وفي أعقاب المجزرة الأولى في الساحل، اتجهت السويداء نحو تبنّي خيار الإدارة الذاتية ورفعت مطالب اللامركزية، في مقابل تيار آخر داخل المحافظة ظل متمسكًا بالمركزية وبالارتباط بدمشق، انطلاقًا من هواجس تتعلق بالحفاظ على وحدة البلاد ومنع تفككها.
في المقابل، برز تيار ثالث داخل السويداء، تشكّل على خلفية تاريخ من الولاء للنظام السابق، لكنه سرعان ما اتخذ موقفًا عدائيًا من دمشق بعد الأحداث الدامية التي شهدتها المحافظة. وقد تلقى هذا التيار دعمًا من قوات سوريا الديمقراطية، إلى جانب أطراف إقليمية عربية، وحتى من إسرائيل، وفق ما يتم تداوله. ومع سقوط النظام، سارع هذا التيار إلى الاستيلاء على مخازن أسلحة تابعة له وإخفائها، تحسبًا لأي مواجهة محتملة، لا سيما في ظل تصاعد خطاب العنف ووقوع مجازر في الساحل، ثم لاحقًا في السويداء نفسها، وهو ما اعتبره أنصاره تأكيدًا على صواب قراءتهم المبكرة لمسار الصراع.
معالم تحوّل عسكري جديد جنوب سوريا: تأهيل معمل أسلحة في السويداء
في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2025، انطلقت أعمال إنشاء وتجهيز منشأة عسكرية متخصصة في إعادة تأهيل وصيانة الصواريخ والقذائف الصاروخية والمدفعية، داخل محافظة السويداء، وذلك في إطار تحركات تقودها فصائل درزية منضوية تحت مسمى “الحرس الوطني”.

وتعود الأسلحة التي يجري العمل على صيانتها وتأهيلها إلى مخزونات تمت السيطرة عليها سابقًا من مستودعات تابعة للنظام السوري السابق، إضافة إلى مواقع كانت تستخدمها قوات الحرس الثوري الإيراني وميليشيا حزب الله خلال فترة انتشارهم في الجنوب السوري.
وقد أُنشئ المصنع بإشراف مباشر من اللواء 164، في منطقة عتيل بريف السويداء، بعد نقل معدات وآليات متخصصة من “رحبة التسليح” التابعة سابقًا للفرقة 15 قوات خاصة،

32°49’11.2″N 36°28’27.7″E
32.819778, 36.474361
الواقعة بين قريتي المجدل ونجران. وتشير المعطيات إلى أن هذه الخطوة تمثل تطورًا نوعيًا في البنية العسكرية المحلية، وتعكس توجهًا نحو بناء قدرة ذاتية في مجال الصيانة والتأهيل العسكري، بعيدًا عن الاعتماد المباشر على مصادر خارجية. وتولّى الإشراف على عملية إعادة التأهيل مجموعة من الضباط وصف الضباط الدروز المتخصصين في التسليح، وجميعهم يحملون خبرة سابقة ضمن إدارة التسليح التابعة للنظام السوري. وقد تم توزيع المهام وفق الاختصاصات لضمان صيانة فعّالة ودقيقة لمختلف أنواع الأسلحة. ويشمل الفريق أبرز الأسماء التالية:
-
المقدم المهندس نور الدين الشنابلة – اختصاص صواريخ
-
الرائد أكرم شروف – اختصاص ذخيرة
-
النقيب منذر مزهر – اختصاص ذخيرة
-
المساعد أول مجدي الصحناوي – اختصاص ذخيرة
وقد نفّذ الفريق أول عملية صيانة على صواريخ R‑60 قصيرة المدى، إضافة إلى صواريخ جولان 300، ما يُظهر قدرة الفريق على التعامل مع أنواع متقدمة من الصواريخ، ويؤكد المستوى الفني المتخصص الذي تم توفيره لضمان تشغيل المنشأة بكفاءة.
لية العمل داخل منشأة التأهيل العسكري
تُدار عمليات الصيانة وإعادة التأهيل داخل المنشأة وفق منظومة عمل تقنية متعددة المراحل، تعتمد على إجراءات معيارية تهدف إلى إعادة الجاهزية التشغيلية للذخائر والأسلحة المخزّنة، مع الالتزام بمعايير السلامة والتحكم الفني. وتشمل هذه المنظومة عمليات فحص، تفكيك جزئي، معالجة فنية، وإعادة تجميع، إلى جانب إجراءات توثيق دقيقة لكل مرحلة من مراحل العمل.
وبعد دخول المنشأة حيّز التشغيل، جرى اختيار 45 عنصرًا من منتسبي اللواء 164 لإخضاعهم لدورات تخصصية في مجالي الذخيرة والصواريخ، ضمن برنامج تدريبي داخلي يهدف إلى بناء كادر فني دائم. وقد أسفر ذلك عن تشكيل كتيبة تسليح مستقلة أُنيطت قيادتها بالمقدم نور الدين الشنابلة، لتتولى الإشراف على الجوانب الفنية واللوجستية المرتبطة بعمليات الصيانة وإدارة المخزون.
يشكل هذا التطور في السويداء مؤشراً على تحولها نحو قوة عسكرية شبه مستقلة ضمن المشهد السوري، من خلال بناء قدرات ذاتية في التسليح والصيانة، بعيداً عن المركزية التقليدية لدمشق. ويعكس هذا التحوّل اتساع الفراغ السياسي والأمني في الجنوب، وانحسار قدرة الدولة على التحكم بالموارد العسكرية، ما يفتح المجال أمام إدارة محلية أكثر استقلالية.
ويشير هذا التحول إلى دخول الجنوب السوري مرحلة جديدة، تتجه فيها القوى المحلية نحو إدارة مواردها العسكرية بشكل مستقل، بما يعكس تصدع النموذج المركزي للدولة، ويفتح المجال أمام صيغ حكم أمر واقع تتفاوت بين محاولات تنظيم السلطة محلياً وبين مخاطر الانزلاق نحو صراعات نفوذ بين قوى صاعدة. وفي هذا السياق، تقف الجغرافيا السورية اليوم عند مفترق طرق حاسم: إما الوصول إلى تفاهمات جديدة لإعادة توزيع السلطة ضمن معادلات توازن هشة، أو الانزلاق نحو صدامات مفتوحة ترسمها «أمراء مرحلة ما بعد الدولة»، حيث تتحول أدوات القوة إلى وسيلة لإعادة إنتاج الصراع بدلاً من ضبطه.

