في مشهد يُفترض أنه ينتمي إلى سياقٍ انتقالي نحو الديمقراطية، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع المرسوم رقم 101، القاضي بقبول استقالة معاون وزير الإدارة المحلية والبيئة، معتز إبراهيم صبيح دوه جي. ورغم الطابع الإداري الظاهري لهذا القرار، إلا أن صدوره مباشرة عن رأس الدولة يطرح علامات استفهام حول حدود الصلاحيات في النظام السياسي السوري الجديد: لماذا يتدخل الرئيس في شأن إداري من هذا المستوى؟ وما دور الوزراء إن لم يكونوا مخولين باتخاذ قرارات داخل وزاراتهم؟ وهل السلطة التنفيذية باتت مفرغة من مضمونها لصالح تركيز غير مسبوق للسلطة في يد الرئيس؟
لماذا يُصدر الرئيس مرسومًا في شأن وظيفي كهذا؟ أين صلاحيات الوزراء؟ وهل باتت السلطة التنفيذية مفرغة من مضمونها لصالح هيمنة رئاسية مطلقة؟ هل الوزراء عم وزراء بروتوكول منزوعي الصلاحيات؟ هذا النمط المتصاعد من التمركز في صنع القرار يعكس توجّهًا واضحًا نحو تجميع السلطات في يد الرئيس الشرع، ربما بدرجة أشد مما كان عليه الحال في النظام السابق. وبذلك، فإن الخطابات التي بشّرت بفصل السلطات وإعادة توزيع مراكز النفوذ بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تبدو اليوم أبعد ما تكون عن الواقع السياسي والإداري القائم. الامر لا بيقتصر على الجانب الإداري فقط وانما يتعدى الى صبلاحيات وزارة الدفاع والداخلية من خلال هيكلة الأجهزة الاستخباراتية التابعة لها مما يشعر ان الرئيس يخاف من الجميع ويريد ان يكون هو الدولة او الفوضى.
ما يبدو سلوك إداري عابر، يعكس في الواقع نمطًا متصاعدًا من التمركز في اتخاذ القرار ” هئية المنافذ البرية والبحرية مثال أخر” ، حيث يشير إلى هيمنة متزايدة للرئيس الشرع، ربما تفوق ما كان قائمًا في عهد النظام السابق. وهكذا، فإن الوعود التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، والتي بشّرت بفصل السلطات وتوزيع مراكز النفوذ، تبدو اليوم بعيدة عن التطبيق العملي، وهذا السلوك لم يقتصر على البنية الادارية فحسب بل تعده الى هيكلة سلطات وزارة الدفاع و الداخلية من خلال هيكلة أجهزة الاستخبارات التابعة لهما لصالح الرئاسة وفق فلسفة ” أنا الدولة او الفوضى”.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية… أم إعادة تموضع للسيطرة؟
التحولات لم تقتصر على الجانب الإداري، بل طالت الأجهزة الأمنية والعسكرية التي خضعت لإعادة هيكلة واسعة، قُدمت بدايةً كمقدمة لإصلاح أمني شامل. ففي 26 ديسمبر 2024، أُعلن عن تأسيس جهاز الاستخبارات العامة (General Intelligence Service)، وتعيين أنس خطاب كأول مدير له.
تبع ذلك تحجيم جهاز الأمن العام المعروف سابقًا خلال عهد الاسد البائد بـ”الأمن السياسي”، وتحويله إلى شرطة مدنية تخضع لرقابة من كيان موازٍ يُعرف باسم “الشيخ”، يتبع للرئيس بشكل غير مباشر، ويُعيّن عبر الهيئة السياسية التي يقودها أسعد الشيباني، أحد أبرز المقربين من الشرع.
لكن ما سُمّي “إصلاحًا” سرعان ما تحول إلى إعادة تموضع للسيطرة الرئاسية؛ ففي مايو 2025، عُيّن حسين السلامة، أحد قادة المعارضة السابقين، مديرًا جديدًا لجهاز الاستخبارات العامة، مع إخضاع الجهاز مباشرة لرئاسة الجمهورية عبر المجلس الوطني للأمن، متجاوزًا وزارة الداخلية. الجهاز الذي كان يُعرف سابقًا بـ”أمن الدولة”، وتوسعت صلاحياته لتشمل ملفات كانت من اختصاص الاستخبارات العسكرية، خاصة بعد تعيين ميزر مخلف مديرًا للجهاز العسكري الجديد.
أما جهاز الأمن الوطني، فيخضع مباشرة لإشراف الرئيس الشرع، ويُعد اليوم الجهاز السيادي الأعلى في منظومة الأمن السوري. وتشير تقارير ميدانية إلى أن تركيزه العملي ينصبّ على مراقبة المعارضة السياسية، وفاعلين اقتصاديين والمجتمع المدني معنيين بملفات العدالة الانتقالية وسبل العيش، في مشهد يُعيد إلى الأذهان الممارسات الأمنية التقليدية ولكن بأدوات جديدة.
أجهزة جديدة… ولكن بوظائف قديمة
بالتوازي، أُنشئ جهاز جديد تحت مسمى مكافحة الإرهاب، يتبع للرئاسة أيضًا، ومهمته المعلنة ملاحقة فلول من مجموعات النظام السابق والتنظيمات المتطرفة .
غير أن المخاوف تتزايد من أن يتحول هذا الجهاز إلى أداة أمنية موازية لتصفية المعارضين وإدارة مراكز احتجاز سرية، خاصة في إدلب وحارم.
أما شعبة المخابرات الجوية، فلا تزال من دون قيادة معلنة حتى الآن، في وقت تتداول فيه تسريبات حول نية إعادة تسميتها بـ”استخبارات المسيّرات” أو “جهاز الشاهين”، في محاولة لتكييفها مع الاستخدام المتزايد للطائرات دون طيار في المجالين الأمني والعسكري.
أمن يبتلع الدولة… واقتصاد يخضع للرقابة
الأكثر إثارة للقلق أن المهام الأمنية لم تعد محصورة في حماية النظام العام أو مواجهة التهديدات، بل بدأت الأجهزة الأمنية تتوغل في مجالات الإعلام، العدالة الانتقالية، السلم الأهلي، وحتى المبادرات الاقتصادية. وقد تم ربط بعضها بـ المجلس الاقتصادي الأعلى، بطريقة تستحضر تجربة “الغرفة الاقتصادية” في النظام السابق، والتي كانت واجهة للنفوذ الأمني في الحياة المالية والقطاع الخاص.
سوريا الجديدة: دولة بأجهزة قديمة وعقلية مركّزة
النتيجة الراهنة تشير إلى أن سوريا الجديدة تسير نحو نمط سياسي عالي المركزية، تُدار فيه مفاصل الدولة من مكتب الرئيس، وتُنفذ السياسات من خلال أجهزة أمنية تحمل تسميات جديدة ولكنها تستبطن مناهج إدارة قديمة. الملفات السياسية، الأمنية، والاقتصادية تُدار من نقطة واحدة، في تناقض جوهري مع وعود الانتقال نحو دولة مدنية تعددية.
إذا لم تُكبح هذه الديناميكيات، فإن سوريا تخاطر بالانتقال من مرحلة “سقوط النظام” إلى مرحلة “إعادة إنتاجه”، ولكن بواجهة جديدة، وأسماء محدثة، تحت شعار التحديث والإصلاح. وهنا، لا يُعاد فقط بناء الدولة، بل يُعاد بناء السلطة – بشكل أكثر انغلاقًا وانضباطًا، وإن بدا ظاهريًا أكثر تنظيمًا.