مصعب المجبل
ما إن سقط نظام بشار الأسد حتى تعالت الأصوات الأوروبية المحذرة من عودة مفاجئة للاجئين السوريين إلى بلدهم، وانعكاس ذلك على قطاعات اقتصادية واسعة يسهم فيها هؤلاء بصورة جلية.
فبعد مرور عقد من الزمن على بدء الموجة الكبرى من رحلة لجوء السوريين إلى البلاد الأوروبية هربا من بطش النظام البائد، أسهم اللاجئون في قطاعات أساسية في الدول التي قصدوها.
مخاوف العودة
وبات اللاجئون السوريون اليوم أحد المكونات الرئيسة التي تعتمد عليها ألمانيا أكبر اقتصادات الدول الأوروبية والتي استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري منذ عام 2014.
ولهذا فور إعلان سقوط نظام الاستبداد في سوريا في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 أعربت دول أوروبية عن مخاوفها بشكل صريح من عودة الذين اندمجوا في المجتمعات الجديدة وأسهموا بشكل فعال في اقتصادها.
وأكد المستشار الألماني أولاف شولتس في 13 ديسمبر أن اللاجئين السوريين “المندمجين” في ألمانيا “مرحب بهم”.
وقال المستشار الديموقراطي الاشتراكي في رسالة على منصة إكس إن “كل من يعمل هنا، ومندمج بشكل جيد، هو موضع ترحيب في ألمانيا وسيظل كذلك”، مشيرا إلى أنّ “بعض التصريحات في الأيام الأخيرة أدّت إلى زعزعة” استقرار “مواطنينا السوريين الأصل”.
وجاء كلام شولتس ردا على دعوات المحافظين من اليمين المتطرف بإعادة اللاجئين إلى بلدهم بعد سقوط نظام بشار الأسد.
إذ قالت مرشحة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف لمنصب المستشارة أليس فايدل، في منشور على منصة إكس “لن نقبل أحدا بعد اليوم!”.
وهذا الحزب الذي تعززت شعبيته بفضل المخاوف التي سادت قسما من الرأي العام الألماني بسبب تدفق المهاجرين، صعد إلى المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات التشريعية المبكرة المقررة في 23 فبراير/ شباط 2025.
وانقسم الشارع في ألمانيا بين محذر من إعادتهم وبين مشجع على ذلك.
فهذا “ينس سبان” أحد قادة الكتلة البرلمانية المحافظة في مجلس النواب الألماني، والذي اقترح “استئجار طائرات” وتخصيص مكافأة قدرها ألف يورو “لكل من يريد العودة إلى سوريا”.
فبحسب مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني فإن 75 ألفا وخمسمائة شخص من سوريا، نالوا الجنسية الألمانية حتى منتصف عام 2024، وقد أمضى أولئك الأشخاص ما متوسطه 6.8 سنوات في ألمانيا، قبل أن يصبحوا مواطنين ألمانا.
وفي حين حصل هؤلاء على الجنسية الألمانية فإن كثرا من اللاجئين السوريين لم يحصلوا عليها بعد، ما يجعلهم عرضة لترحيلهم من هذا البلد.
ضربة اقتصادية
اللافت في هذا السياق، هو صدور دراسة نشرت في 13 ديسمبر تفيد بأن عودة السوريين الذين لجأوا إلى ألمانيا إلى بلادهم ستفاقم نقص اليد العاملة في عدة قطاعات أساسية، أبرزها الاستشفاء والنقل واللوجستية.
وأظهرت دراسة لمعهد الأبحاث بشأن سوق العمل، أنه وفي أكبر اقتصاد في أوروبا يعاني من نقص بنيوي في اليد العاملة، يعمل اللاجئون السوريون “في قطاعات فيها نقص لليد العاملة وتكتسي أهمية كبرى، مثل الصحة والنقل واللوجستية”.
ولا شكّ في أن عودة هؤلاء العمّال إلى بلدهم “لن تكون دراماتيكية على صعيد الاقتصاد الكلي، لكن قد تكون لها تداعيات جدّ ملموسة على صعيد المناطق والقطاعات”، بحسب الدراسة.
وقدرت هذه الأبحاث حصة العمال السوريين من سوق العمل في ألمانيا بحوالى 0,6 بالمئة، أي نحو 287 ألف شخص (0,8 بالمئة مع السوريين الحائزين الجنسية الألمانية)، مع الإشارة إلى أن عددا كبيرا من السوريين الذين وصلوا بعد 2015 مازالوا يدرسون ويتدرّبون استعدادا للالتحاق بسوق العمل.
توازيا ومن ضروب المخاوف لدى الأوروبيين من عودة السوريين لبلدهم، حذر رئيس جمعية المستشفيات الألمانية غيرالد غاس من تداعيات عودة الأطباء السوريين “الذين أدوا دورا أساسيا في صون الرعاية الصحية، لا سيما في مستشفيات المدن الصغيرة”.
ويزاول حوالي 5758 سوريا الطبّ في ألمانيا، بحسب مجلة “دير شبيغل” التي استندت إلى بيانات الجمعية الطبية الألمانية.
وأكثر من 5 آلاف طبيب سوري يعملون في المرافق الطبية الألمانية، وغالبا في المناطق الريفية، حيث إن استبدالهم وغيرهم من الموظفين سيكون صعبا، وفق صحيفة “زي دي إف” الألمانية.
ومن شأن عودة السوريين أن تشكل “ضربة قاسية” لقطاع الرعاية بكبار السن، بحسب ما قالت إيزابيل هاليتس مديرة جمعية تعنى بهذا المجال لقناة “ان تي في”.
وأفاد معهد الأبحاث بشأن سوق العمل بأن السوريين يعملون خصوصا في قطاعات النقل واللوجستية والإنتاج الصناعي والتغذية والفنادق والصحة والبناء، في حين يتركز عمل النساء السوريات في الخدمات الاجتماعية والثقافية.
وأمام هذه المخاوف فقد كانت ألمانيا من أول البلدان الأوروبية التي أعلنت تعليق النظر في طلبات اللجوء المقدّمة من لاجئين سوريين، مشددة على حالة عدم اليقين السائدة.
وفي أعقاب الإطاحة بالأسد، جمّدت دول عدة في الاتحاد الأوروبي بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا درس طلبات اللجوء الجديدة التي قدمها مواطنون سوريون، مع وجود أكثر من 100 ألف حالة معلقة في جميع أنحاء دول التكتل حتى نهاية أكتوبر 2024، وفقا للبيانات الرسمية.
في ألمانيا وحدها هناك 47,270 لاجئا من سوريا ينتظرون الرد على طلبات اللجوء التي قدموها.
وعلى أية حال فإن الوضع بعد سقوط الأسد غير مستقر بشكل كامل، رغم تعيين إدارة العمليات العسكرية التي أطاحت بالأسد حكومة انتقالية بقيادة محمد البشير.
لكن هذا لم يعط إلى الآن مؤشرات يقينية على وجود حكومة فاعلة أو وزارات منظمة في هذه المرحلة المفصلية بعد الخلاص من حكم الاستبداد.
إذ ينتظر السوريون كتابة دستور يحدد شكل الدولة وإجراء انتخابات تفضي إلى قيادة جديدة للبلد منتخبة ديمقراطيا بعد 54 عاما من حكم الفرد الواحد منذ تسلم حافظ الأسد السلطة بـ انقلاب عسكري عام 1971 إلى توريثه ابنه بشار الحكم عام 2000.
التريث سيد الموقف
وضمن هذه الجزئية قال الباحث السوري مدير موقع “اقتصادي”، يونس الكريم، لـ “الاستقلال”، إن “اللاجئين السوريين نظرا لطول مدة الإقامة في أوروبا واندماجهم شكلوا جزءا من التوزع البشري في أوروبا حيث باتوا جزءا من المجتمع المحلي”.
وأضاف: “لهذا فإن عملية التخلي عن هذا الاستثمار الذي حصل مع اللاجئين السوريين يعد خسارة للاقتصاد الأوروبي لأن عملية التعويض تحتاج لفترة زمنية طويلة غير متوفرة لدى الأوروبيين الآن خاصة مع وصول اليمين المتطرف بأكثر من حكومة أوروبية ما يعني أن استقبال البديل عن السوريين غير متوفر الآن”.
وأردف الكريم: “لا سيما مع وجود تصلب في بعض الدول الأوروبية لاستقبال اللاجئين برزت خلال الأشهر الأخيرة ما يعني أن التخلي عن اللاجئين السوريين يعد مشكلة في الوقت الحالي”.
وأشار إلى أن “بعض الكفاءات من اللاجئين السوريين في أوروبا هم الآن يراقبون تطورات ما ستؤول إليه الأوضاع بسوريا إذ إن التريث هو سيد الموقف لمعرفة طبيعة النظام الحاكم الجديد في سوريا خاصة أن هناك تجارب سابقة في العراق وبمصر وتونس بأن الاستقرار كان استقرارا أمنيا ولم يشمل الاستقرار الاقتصادي والمؤسساتي”.
وذهب للقول: “إن الوضع الاقتصادي الحالي بسوريا قد لا يكون مهيأ لاستقبال تلك الطاقات من اللاجئين السوريين الذين راكموا خبرات وتخصصوا في مجالات خدمية وهذه لن تعود إلى البلد للاستقرار ما لم تحصل على رواتب مجزية مع وجود بنية تحتية لا يمكن لأحد أن يعود أكثر من زيارة قصيرة لبلده”.
وتقدر صحف ألمانية وجود 287 ألف مواطن سوري يعملون في ألمانيا، وأن العديد منهم ممن وصلوا في السنوات الأخيرة لا يزالون مسجلين في دورات اللغة وما يسمى بدورات التكامل.
وتشير الدراسات إلى أن السوريين الذين وصلوا قبل عقد من الزمن هم من الشباب، بمتوسط عمر 25 عاما، ويميلون إلى الحصول على مستويات أعلى من التعليم ومعدلات جيدة من التوظيف.
ويؤكد سامر الخطيب، وهو لاجئ في ألمانيا، لـ “الاستقلال” أن “المزاج العام في ألمانيا حول قرار العودة إلى سوريا ليس سهلا وهو مرتبط بعوامل كثيرة تخص اللاجئ وظروفه فعلى سبيل المثال ما تزال الإجراءات الروتينية الطويلة من ناحية لمّ شمل العوائل تقلق استقرار اللاجئ وتجعله مشتتا”.
وأضاف الخطيب: “هناك لاجئون لديهم ظروفهم الخاصة تشجعهم على العودة بعد سقوط الأسد منها رغبة البعض في تنشئة الأولاد في بلدهم أو العودة إلى رؤية الأقرباء والعيش معهم من جديد بعد سنوات من البعد، والبدء في حياة جديدة خاصة أولئك الذين لا يحملون الجنسية الألمانية”.
ومع ذلك أشار الخطيب إلى أن “مسألة العودة بصورة نهائية إلى سوريا ما تزال غير مؤكدة لا سيما أن كثيرا من الناس ليس لديهم منازل يعودون إليها وهي مدمرة والبنية التحتية مدمرة وقد تحتاج لسنوات لإصلاحها فضلا عن الانتعاش الاقتصادي وفرص العمل واستتباب الأمن كذلك”.
المقالة منشورة على موقع صحيفة الاستقلال .