في السنوات الأخيرة، تزايد الاهتمام بنموذج “بيرسي” المستوحى من الهيكلية الإدارية والتنظيمية لوزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية. يهدف هذا النموذج إلى دمج مختلف القطاعات الاقتصادية تحت مظلة واحدة لتحقيق تنسيق أفضل وكفاءة أعلى في إدارة الشؤون الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر أن هذا الاهتمام تجسد في اللقاءات في وزارتي الاقتصاد والصناعة بالحكومة تسير الاعمال ، التي نُقلت أخبارها إلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي على ما يبدو انهم قد قطعوا شوطاً في الاستشارات لبدأ تنفيذ هذا النموذج .
في هذه المقالة، سنستعرض خصائص نموذج “بيرسي”، تجارب الدول التي طبقته، أسباب نجاحه أو فشله، بالإضافة إلى المعوقات الحالية التي قد تواجهها الحكومة السورية في تطبيق هذا النموذج، مع التركيز على تحديات الموارد البشرية والبطالة.
نموذج “بيرسي”
نموذج “بيرسي” يستمد اسمه من مقر وزارة الاقتصاد والمالية في حي بيرسي بباريس. يعتمد هذا النموذج على دمج مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية تحت مظلة وزارة واحدة، بهدف تحقيق تنسيق أفضل وكفاءة أعلى في إدارة الشؤون الاقتصادية.
يشمل هذا النموذج قطاعات مثل الاقتصاد، الصناعة، الشركات الصغيرة والمتوسطة، التجارة الخارجية، والرقمنة. ويسعى نموذج “بيرسي” إلى تعزيز الابتكار والشراكات الدولية، وجذب الاستثمارات، وتوسيع الأسواق الإنتاجية والمالية.
تجربة فرنسا في تطبيق نموذج “بيرسي”
ظهر نموذج “بيرسي” في فرنسا عام 1988، وقد ساهم هذا النموذج في تحقيق تنسيق أفضل بين القطاعات الاقتصادية المختلفة وتعزيز كفاءة الإدارة الاقتصادية. من خلال دمج القطاعات الاقتصادية تحت مظلة وزارة واحدة، تمكنت فرنسا من تحسين فعالية السياسات الاقتصادية وتوجيهها نحو الابتكار والشراكات الدولية، واستطاعت جذب الاستثمارات الأجنبية وتوسيع الأسواق الإنتاجية والمالية.
تجارب دول أخرى في تطبيق نموذج “بيرسي”
- ألمانيا: تبنت ألمانيا نموذجاً مشابهاً لنموذج “بيرسي” من خلال دمج القطاعات الاقتصادية والصناعية تحت مظلة وزارة الاقتصاد والطاقة. ساهم هذا النموذج في تعزيز التنسيق بين القطاعات المختلفة وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة الشؤون الاقتصادية.
- كندا: اعتمدت كندا نموذجاً مشابهاً لنموذج “بيرسي” من خلال دمج القطاعات الاقتصادية تحت مظلة وزارة الابتكار والعلوم والتنمية الاقتصادية. ساهم هذا النموذج في تعزيز الابتكار وجذب الاستثمارات الأجنبية.
- اليابان: تبنت اليابان نموذجاً مشابهاً لنموذج “بيرسي” من خلال دمج القطاعات الاقتصادية تحت مظلة وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة. ساهم هذا النموذج في تعزيز التنسيق بين القطاعات المختلفة وتحقيق كفاءة أعلى في إدارة الشؤون الاقتصادية.
أسباب نجاح وفشل نموذج “بيرسي”
أسباب النجاح:
لكي ينجح هذا النموذج يحتاج توفر عدة عوامل:
- التنمية المستدامة: تحسين البيئة التشريعية والقانونية وتقديم الدعم المستدام للمشاريع الناشئة يمكن أن يعزز من نجاح نموذج “بيرسي”.
- الابتكار والتكنولوجيا: تشجيع الابتكار وتبني التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على المؤسسات الاقتصادية، مما يساهم في تحقيق نجاحها.
- البنية التحتية: تحسين وتطوير البنية التحتية يمكن أن يدعم الاقتصاد بشكل كبير، حيث يسهل عمليات النقل والتواصل ويدعم نمو المؤسسات الاقتصادية.
- الشراكة بين القطاعين العام والخاص: تعزيز التعاون بين القطاعين يمكن أن يوفر الدعم والموارد اللازمة لتحقيق النجاح الاقتصادي.
- التعليم والتدريب: توفير فرص التعليم والتدريب للموظفين والعاملين وحتى الشباب في سن العمل ، لانه يمّكن أن يسهم في تحسين جودة المشاريع وتحقيق النجاح.
أسباب الفشل:
هناك عوامل كثيرة تعيق تطبيق هذا النموذج ونجاحه، ومنها:
- الافتقار إلى التخطيط الاستراتيجي: عدم وضع خطة واضحة ومحددة يمكن أن يؤدي إلى تشتت الجهود وفقدان الاتجاه الصحيح.
- نقص التمويل: عدم توفر رأس المال الكافي لدعم المشاريع وتنفيذها يمكن أن يعرقل النجاح، بالإضافة إلى قلة الموارد البشرية.
- البيئة التنافسية: مواجهة منافسة شديدة من مؤسسات أخرى يمكن أن تجعل من الصعب تحقيق النجاح.
- قلة الابتكار: عدم تبني التقنيات الحديثة والأساليب المبتكرة يمكن أن يؤدي إلى تراجع الأداء وعدم القدرة على مواكبة السوق.
- ضعف الدعم الحكومي والتنسيق بين جهاتها: عدم توفر الدعم اللازم من الحكومة من حيث التشريعات والتمويل والبنية التحتية يمكن أن يؤثر سلباً على نجاح النموذج، إضافة إلى ضرورة وجود تنسيق فعال بين مختلف الجهات الحكومية والخاصة.
- نقص التدريب والتطوير: عدم توفير التدريب والتطوير اللازمين للموظفين والعاملين في المشروع يمكن أن يؤدي إلى ضعف الأداء وعدم تحقيق الأهداف المرجوة.
- التغيير الإداري والثقافي: يحتاج تطبيق نموذج “بيرسي” إلى تغييرات جوهرية في الهيكلية الإدارية والثقافة التنظيمية، مما يتطلب وقتاً وجهوداً كبيرة.
التحديات المتعلقة بنموذج “بيرسي”
التعارضات بين الوزارات:
يمكن أن تنشأ بعض التعارضات بين الوزارات في نموذج “بيرسي” نتيجة للتغييرات الهيكلية والإدارية، أبرزها:
- توزيع الصلاحيات: تعارض حول توزيع الصلاحيات والمسؤوليات بين الوزارات.
- تداخل المهام: تداخل المهام بين الوزارات المدمجة.
- تعارض السياسات: تعارض بين السياسات الاقتصادية والصناعية للوزارات المختلفة.
- إدارة الموارد: تعارض حول كيفية إدارة وتوزيع الموارد المالية والبشرية بين الوزارات المدمجة.
- التنسيق الإداري: تحديات في تحقيق التنسيق الإداري الفعال بين الوزارات المدمجة.
- ثقافة العمل: تعارض بين ثقافات العمل المختلفة للوزارات المدمجة.
تحديات أخرى:
- الموارد البشرية:
- نقص الكوادر المؤهلة.
- الحاجة إلى التدريب والتأهيل المستمر.
- إدارة التغيير داخل المؤسسات الحكومية.
- تحديات البطالة:
- إعادة هيكلة الوظائف.
- انتقال العمال بين القطاعات.
- دعم العمالة المتضررة من تطبيق النموذج.
- التحديات الإنسانية والسياسية:تعقيدات إنسانية وسياسية نتيجة للصراعات والحروب، حيت انعكست بغياب بيئىة تشريعية وقانونية داخل سورية وبعقوبات اقتصادية وضغوطات امنية خارجية ، ادت الى إعاقة في عملية جذب المستثمري.
- تحديات البنية التحتية المتضررة: التدمير الواسع للبنية التحتية نتيجة للحروب يعيق تطبيق هذا النموذج ، ذلك ان البنية تحتية الهشة بحاجة إلى تمويل ضخم، التنسيق الفعال بين الجهات وتغير الاوليات بشكل مستمر مما يضيف تعقيدات في التخطيط. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر تقنيات بناء مستدامة وإدارة لوجستية متميزة لضمان نجاح مشاريع إعادة الإعمار.
- تحديات التحول الرقمي :تشمل الحاجة إلى بنية تحتية تقنية متطورة وتأهيل الكوادر البشرية لمواكبة التقنيات الحديثة. كما يتطلب التنفيذ الفعّال تعزيز الأمان السيبراني وتحديث الإجراءات والأنظمة القديمة، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الدولية لتبادل الخبرات وجذب الاستثمارات التقنية والذي يتعلق جزء منه بالعقوبات الاقتصادية.
نموذج “الشباك الواحد” ونموذج “بيرسي”
نموذج “بيرسي” ليست هو المحاولة الاولة للحكومة السورية في تطوير البئية الاقتصادية من خلال هيكلة الادارية لوزارة الاقتصاد / فقذ سبقها محاولات كثر ، منها نموذج “النافذة الواحده ” تحيث تم تطبيقه في سوريا في عام 2008، تحت رئاسة رئيس الوزراء محمد ناجي عطري. كان الهدف من هذا النموذج هو تبسيط الإجراءات الإدارية للمستثمرين والمواطنين من خلال جمع جميع الخدمات الحكومية المتعلقة بالاستثمار أو الأعمال في مكان واحد، مما يسهل الوصول إلى المعلومات والخدمات، ويقلل من البيروقراطية، ويسرع العمليات الإدارية ، وتقليل الفساد، وجذب المستثمرين .
وهذا النموذج ، النافذة الواحدة ، يتقارب مع نموذج “بيرسي” المستوحى من الهيكلية الفرنسية في نقاط كثيرة ، ممكن اعتبار نموذج ” النافذة الواحدة” الرؤية الخاصة في الهيكلية الادارية للوزارات .
أوجه التشابه بين النموذجين
يمكن حصرها في :
- التنسيق المركزي: كلا النموذجين يسعيان إلى تحسين التنسيق بين الجهات المختلفة.
- تسهيل العمليات: الهدف في كلا النموذجين هو تقليل التعقيدات الإدارية.
أوجه الاختلاف:
رغم الشبه بين النموذيجن ، لكن نموذج” بيرسي” يركز على دمج القطاعات الاقتصادية المختلفة (مثل الصناعة، الشركات الصغيرة والمتوسطة، التجارة الخارجية، والرقمنة) تحت مظلة وزارة واحدة لتحقيق تنسيق أفضل في السياسات الاقتصادية والصناعية.
هذا الهدف ، يترك فجوة بين النموذجين من خلال :
- النطاق: نموذج “الشباك الواحد” يركز على تقديم الخدمات الإدارية بشكل مباشر، بينما نموذج “بيرسي” يركز على هيكلة الوزارات والسياسات الاقتصادية.
- الأهداف: “الشباك الواحد” يهدف إلى تحسين تجربة المستخدم (المستثمر أو المواطن)، بينما “بيرسي” يهدف إلى تحسين كفاءة الإدارة الاقتصادية على المستوى الوطني.
لذا النافذة الواحدة لا يمكن اعتبارها أكثر من من عملية ازالة الاختناقات في العمل البيرقراطي للوزارات واحد طرق الرقابة الداخلية على ادائها . على عكس “نموذج بيرسي”
في النهاية، يمكن القول إن نموذج “بيرسي” يهدف إلى تحسين التنسيق وتسهيل العمليات الاقتصادية، ولكنه يواجه تحديات كبيرة في تطبيقه، خاصة في سوريا التي تعاني من أوضاع سياسية واقتصادية معقدة. غياب بيئة تشريعية ودستورية واضحة واستمرار العقوبات الدولية يزيدان من صعوبة توفير الموارد المالية اللازمة للتنفيذ. هذا يشير إلى أن تطبيق النموذج قد ينتج عنه نموذج هجين يعيق عملية جذب الاستثمارات بدلاً من تعزيزها، مما قد يؤدي إلى تحول النموذج إلى آلية لبناء الفساد المستدام.